• 2022-08-21

تأملات

"وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين"

يبيّن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حقيقة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي رحمة للعالمين لكل الخلق من الإنس والجن صغيرهم وكبيرهم ذُكرانهم وإناثهم. فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمن ليزداد إيماناً وتثبيتاً ورحمة للكافر ليخرَج من الظلمات إلى النور.
إن هذه الرحمة المهداة التي بُعِث بها الحبيب صلى الله عليه وسلم لا يقوم بحقها إلا صاحب خُلُقٍ متين وسجايا علِيَّة تمكنه من تبليغ تلك الرسالة؛ لذا كان الوصف القرآني لرسول الله "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ". وكذلك أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الغاية الكبرى من بعثته فقال (إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ).
إن أعظم ما يميِّز هذه الرسالة الخالدة هو شموليتها وذلك بأنْ يكون لعبادة المسلم الأثر في بناء أخلاقه، فالصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، والصيام يمنعه عن قول الزور والعمل به، والزكاة تطهِّر النفس والقلب قبل المال، وكذلك فإن من أبواب الصدقة بشاشة الوجه وإماطة الأذى عن الطريق وإعانة المحتاج وحسن الجوار، والحج يستوجب أن لا يكون فيه رفث ولا فسوق ولا جدال، وبذلك تتكامل الشخصية الاسلامية لتقدم نموذجًا رائعًا تجتمع فيه سلامة العقيدة وصحة العبادة وحُسْن الخُلُق، وقد عالج القرآن الكريم هذه المسألة في كثير من المواضع التي وصف فيها المؤمنين، وجمع في ذلك بين العبادة والأخلاق، ومنها ما جاء في سورة الفرقان "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ...".
فالخُلُق الحسن أوسع أبواب الدعوة إلى الله والاسلام؛ لأن هذا النموذج الفريد للشخصية الإسلامية هو الذي يجمع القلوب حول الدين ويجعل غير المسلمين يُقبلون عليه ويُؤمنون به؛ لأنهم يرون أثره في حياتهم قبل أن يسمعوا آيات القرآن والحديث الشريف. وقد كان اجتماع الصحابة في أول الدعوة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتمالهم ألوان العذاب كان السبب الرئيس فيه سعة صدره وحُسْن خُلُقه ورحمته بهم، "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ".
وبمكارم الأخلاق تكون أقرب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة كما قال (إنَّ أَحَبَّكم إليَّ وأقربَكم منِّي في الآخرةِ أحاسنُكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم منِّي في الآخرةِ أساوِئُكم أخلاقًا، الثَّرثارونَ المُتَفْيهِقونَ المُتشدِّقونَ). ومن الباب الذي يمكن أنْ تلج به إلى الجنة حُسْن الخلق، فقد ورد أن رجلاً قال: (يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ. قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صيامِها وصَدقَتِها وصَلاتِها، وإنَّها تَتَصدَّقُ بالأَثوارِ مِن الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها بِلسانِها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ).
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدينا لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

آخر أخبار تأملات

  • "فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا"

    2022-10-17

    يقول الله تعالى في كتابه العزيز "مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا"، نزلت هذه الآية في أنس بن النضر، وطلحة بن عبيدالله -رضي الل...

  • "ونفسٍ وما سوَّاها"

    2022-07-20

    المسلم في معركة دائمة مع نفسه الداعية للهوى وحب الشهوات لمحاولة مجاهدتها وتهذيبها وإلزامها بالطريق القويم.. طريق الهداية واتِّباع الشرع. وقد عرض القرآن الكريم في أكثر من موضع لهذا الصراع الداخلي وذلك لأهميته إذ إن نتائج هذه المجاهدة ينبني عليها فلاح ...

  • "قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ"

    2022-06-17

    ساق الله سبحانه وتعالى في سورة (الصافات) وصف النعيم الذي ينتظر عباده الصالحين في جنة الخُلْد فبدأ الله سبحانه وتعالى هذا الوصف بقوله عزوجل "إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ* أُولَٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ" حتى قوله تبارك وتعالى "كَأَنَّهُنّ...

  • "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى"

    2022-05-20

    يقول الله تعالى في كتابه العزيز في افتتاح سورة الكهف وقصة أهل الكهف بقوله سبحانه جل شأنه "نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى"، وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الكريمة: "من هاه...