• 2022-06-17

تأملات

"قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ"

ساق الله سبحانه وتعالى في سورة (الصافات) وصف النعيم الذي ينتظر عباده الصالحين في جنة الخُلْد فبدأ الله سبحانه وتعالى هذا الوصف بقوله عزوجل "إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ* أُولَٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ" حتى قوله تبارك وتعالى "كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ" بأسلوب شائق يخطف الأسماع ويأسر القلوب ويُرَغِّب السامع أنْ يبذل قصارى جهده ليستحق هذا النعيم، وفي وسط هذا الاستطراد تنتقل بنا الآيات الكريمات إلى مشهد آخر"فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ"، يقبل فيه أهل الجنة يسأل بعضهم بعضًا عن النعيم ونعمة الله عليهم في الجنة ويتذاكرون ما كانوا عليه في الدنيا من طاعة لله ورجاء لمغفرته حتى تساءل أحدهم عن صاحبه "قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ* يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ".
إن هذا التساؤل جدير بالانتباه ويحتاج إلى كثير من التأمل لأهميته وخطورته؛ لمدى تأثيره في مسيرة الراغبين أن يكونوا من أهل الجنة.. ألا وإنها الصُّحبة، فإنْ كانت مع أهل المعصية والغافلين فإنها تفضي بك إلى الانقياد والسير في مدارك الهالكين وتؤول بمصيرك إلى الجحيم ويومها لا ينفعك الندم "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا* لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا"، ولا مجال للعودة ولا فرصة لك أنْ تُلقِي المعاذير بل يتبرأ منك قرين السوء "قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ"، ويكون ذلك الصاحب عدواً "الأخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ". فعدم الاستمرار في هذه الصحبة هي النجاة كما وصفها السائل في هذه الآيات حينما اطَّلَع على مصير صاحبه الذي حاول أن يُبعِده عن الطريق المستقيم فقال موبخًا له "قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ".
أما إذا كانت هذه الصحبة في طاعة الله فأنعِم بها لأن المرء يُحشَر مع منْ أَحَب، فعن أنس بن مالك قال: قال رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قالَ: وَما أَعْدَدْتَ لَهَا؟ فَلَمْ يَذْكُرْ كَبِيرًا، قالَ: وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قالَ: فأنْتَ مع مَن أَحْبَبْتَ، فقال أنس: فما فرحنا بشيء بعد الإسلام، فرحنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إنك مع من أحببت وقال: فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، وأنا أرجو أن أكون معهم لحبي إياهم.
فصُحبة الأخيار كمجالَسة بائع المسك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم إنْ لم يُعَطِّرْك أو تشتري منه مسَّك طِيْبُه وتكون بصحبتهم منشرح الصدر مطمئناً تجاهد نفسك على فِعْل الطاعات، فإذا ذكرت الله أعانوك وإنْ نسيت ذكَّروك وإنْ أصابك خير فرحوا لك وإنْ أصابك هَمٌّ واسوك، غير أن هذا الاجتماع على طاعة الله سبحانه وتعالى سبب للشفاعة يوم القيامة، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بالِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ. فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ".
فانتبه بارك الله فيك إلى صحبتك وتخَيَّر منهم أهل الصلاح والإيمان وتذكر دائمًا "لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي".

آخر أخبار تأملات

  • "فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا"

    2022-10-17

    يقول الله تعالى في كتابه العزيز "مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا"، نزلت هذه الآية في أنس بن النضر، وطلحة بن عبيدالله -رضي الل...

  • "وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين"

    2022-08-21

    يبيّن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حقيقة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي رحمة للعالمين لكل الخلق من الإنس والجن صغيرهم وكبيرهم ذُكرانهم وإناثهم. فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمن ليزداد إيماناً وتثبيتاً ورحمة للكافر ليخرَج من الظ...

  • "ونفسٍ وما سوَّاها"

    2022-07-20

    المسلم في معركة دائمة مع نفسه الداعية للهوى وحب الشهوات لمحاولة مجاهدتها وتهذيبها وإلزامها بالطريق القويم.. طريق الهداية واتِّباع الشرع. وقد عرض القرآن الكريم في أكثر من موضع لهذا الصراع الداخلي وذلك لأهميته إذ إن نتائج هذه المجاهدة ينبني عليها فلاح ...

  • "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى"

    2022-05-20

    يقول الله تعالى في كتابه العزيز في افتتاح سورة الكهف وقصة أهل الكهف بقوله سبحانه جل شأنه "نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى"، وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الكريمة: "من هاه...